إنّ سفر أيوب من الأسفار الـمهمة التي يدور حولها التحقيق العلمي لـمعرفة مصدرها، فالذي كان عليه الاعتقاد القديـم أنّ هذا الكتاب الـمعدود من الأقسام الـمهمة في التوراة عبراني الأصل، لأن القدماء من أهل الدين وغيرهم كانوا يعتقدون أنّ الإسرائيلييـن واضعو التوراة كلها وأنّ جميع ما فيها يعود إلى حكمائهم وأهل الوحي منهم، ولكن الـحرية الفكرية التي برزت إلى ميدان العمل بعد نهضة الإصلاح التي قام بها لوثر وسَّعت أبحاثها في الأصول التي تستند إليها الـمعتقدات الدينية توسيعاً تناول بالتحقيق جميع أقسام التوراة والإنـجيل، وبلغ بُعد النهضة العلمية الـحديثة حدّ البحث في صحة مرويات هذين الـمرجعيـن الدينييـن عن الـخلق والتكوين وجَبْلِ آدم وحواء وإسكانهما الـجنة.
تشعب البحث من هذه الوجهة في الأصول الدينية تشعباً كان من ورائه تقسيم التحقيق إلى فروع اختصاصية يتناول كل فرع منها ناحية معيّنة، وتقسم كل ناحية بدورها إلى مواضيع معيّنة توجه إليها عناية خاصة. وسفر أيوب من جملة هذه الـمواضيع التي يعنى بدرسها نفر من العلماء اللاهوتييـن وغير اللاهوتييـن.
وقد عثرنا على بحث قيّم بصدد هذا السفر بقلم فرنك هـ. فصتر من مدرسة أوبرلن اللاهوتية منشور في الـمجلة الأميركية للغات السامية رأينا أن ننقلة لقراء الـمجلة لفائدته العلمية وهو كما يأتي:
»قـادنـي الـدرس الذي قمـت به مؤخراً في كتـاب أيـوب إلى الظن أنّ الآثار العربيـة الظاهرة فيه ليست مجرّد خروج على الـخطط العبرانية. إنّ امتلاء الكتاب بالـمشاهد العربيـة والأوقاف العربيـة التي يشرحهـا الأستـاذ بفيفـر[1] (R. H. Pfeiffer)
لفت نظري إلى أنه قد يكون السبب في وجود هذه الدلائل العربية ناشئاً عن أنّ هذا السفر كتب بالعربية في الأصل. وقليل من الـمطالعة أظهر لي أنّ عدداً غير قليل من الكتَّاب كانوا يعتقدون بوجود مثل هذا الأصل، وقد ذهب بعضهم إلى أنّ السفر مترجم عن السريانية. وابن عزرا (1108 ق. م ) كان يعتقد أنه مترجم. واعتقد بعض علماء البروتستانية القدماء أنه منقول عن أصل عربي. وقد لفت نظري بنوع خاص ما كتبه شولتن (Schulten, Commentary on Job) بشأن سفر أيوب، ومع أني وجدت في كتابته معارضة للزعم بوجود أصل عربي، فقد درست أقواله درساً مدققاً وعنه اقتبست قسماً كبيراً من حججي التي أقصد بها إثبات وجود أصل عربي، والـحقيقة أنّ مثل هذا الافتراض كان مجهولاً، على وجه الإجمال، في السنيـن الأخيرة، وإذا ذكر أحياناً فإنه كان مرفوضاً ومعدوداً أمراً مستحيلاً. ومن الـمحتمل أن لا يكون الوقت قد حان لدرسه درساً انتقادياً وافياً. ولكني أعتقد بوجوب الإفاضة في درسه درساً جديداً، إذ نحن اليوم في عصر يستند فيه نقد التوراة إلى العلم والنزاهة. وإني سأحتج في الأسطر الآتية ببعض أقوال السفر الذي نحن بصدده لتأييد أنه من أصل عربي. ولست أقصد من تقديـم هذه الـحجة أن تكون فصل الـخطاب، بل أن تـحض بعض العلماء الذين هم أقدر مني ومجهزون بـما ينقصني، على التدقيق في كل الافتراضات الـمؤيدة أو الداحضة لهذا الرأي. وإذا تأيَّد رأي الأستاذ بفيفر القائل إنّ بيـن الـمواد التي يتألف منها سفر التكوين وثائق عيسوية[2] وقوي الاعتقاد بأن سفر أيوب كتاب عربي، وإذا اتخذت الآثار السامية الـخارجة عن الأصول اليهودية الـحادثة بعد الـخروج، الظاهرة في الزبور وأحياناً في الأنبياء، أدلة على تداول أدبي وديني كبير بين بلاد العرب وفلسطيـن، فلا بد من إدخال تغيير مهم في النظرية التقليدية الـمتعلقة بأصل ونـجاح الدين في إسرائيل، والتوصل إلى اعتقاد أوسع مجالاً فيما يختص بالوحي الإلهي في الهداية الدينية للنوع البشري. وإنّ العلاقات القوية في هذا البحث ترفعه إلى رتبة قضية لاهوتية عظيمة الأهمية لذلك أود، في هذه الـمقالة، أن أضع أمام علماء الشرق هذا السؤال: ألا يجب أن نُعدَّ كتاب أيوب ترجمة عن أصل عربي؟
1
»أبدأ هنا بذكر التأثيرات التي تشير إلى اللهجة العربية والـمحيط العربي للكتاب، وهما يؤلفان الأدلة الأولى في نظريتنا.
»وأول ما أقول به هنا إنّ الكتاب من نتاج الصحراء. فإن مؤلفه راقب وادي الصحراء، الذي يتحول أحياناً في الشتاء إلى سيل (25،38)، وإمكانية تـجمد الـماء في أثناء الليل ولكن متى جاء الـحر فجأة جف (16،6) وهو قد رأى عواصف الصحراء الهائلة تهب برعودها وبروقها وزوابعها (21:27،18،21) وسيولها (21:27،8:24،19:14) وكان يعرف الرمال القاحلة والصخور الـجرداء في القفر (24،12) والبادية الـموحشة التي »لا إنسان فيها« (26،38) ولاحظ أيضاً مجيء الـمطر وإحياء الأرض »الـموات« (8،14) وظهور العشب والـجمال تطلب الكلأ، ورأى قوافل الصحراء بل قد يكون قاد إحداها (32،31:31)، وخَبِرَ طلبها للماء يجذبها إليه استرواح الـجمال (9،14)، ومصيرها السيّىء إذا لم تـجد ماء (18،6)، وخَبِرَ أيضاً برد ليل الصحراء (7،24)، وراقب تألق القبة الزرقاء في ذلك الـجو الصافي (31،38)، وقام بشؤون ضيافة الصحراء (32،31). وهكذا نرى حياة الصحراء بسكانها وعاداتها ظاهرة أمامنا بجلاء. فالـخيمة هي الـمسكن الوطني والبيت الأميـن (14،18)، الذي تضربه القافلة في الليل بعد ارتـحالها (32،31). ونرى أيضاً أنّ لوحوش الصحراء حظاً من اهتمامه، فهو يذكر حمار الوحش والنعامة التي هي أسرع من الفرس ولكنها حمقاء وكثيرة الإهمال فيما يختص بأولادها (14:39). ويذكر أيضاً الـحيوانات الأليفة، كالـجمال والثيران والـحمير، للشغل وحمل الأثقال، والفرس للغزو والقتال (19:39). كل هذه تدل على أنّ الـمؤلف كان يعرف الصحراء معرفة جعلت قلمه يسرع إلى إبراز صورها، أما تـجارة الـمدن وجماهيرها ومصنوعات أهلها وإسرائيل كما كان وتاريخه وملوكه وقصوره وهيكله وأعياده ونفيه الهائل وخضوعه للأجنبي الـمكروه، فهذه كلها لا يشير إليها بكلمة قط! فالظاهر أنّ الكتاب قد جاء من الصحراء.
»بيد أنّ أيوب لم يكن بدوياً ذا بيت نقال وسط البلقع. وصحيح أنّ غناه كان غنى رجل الصحراء، إذ كان مؤلفاً من الإبل والبقر والغنم والـحمير، ولكنه كان يسكن وأبناءه الـمنازل الـمبنية أو هم كانوا حضراً (7:29). فهل يـمكننا أن نـجد مكاناً صالـحاً يعيش فيه العربي في الصحراء وفي الـمدينة في نفس الوقت؟ إنّ في نـجد أماكن تصلح لتحقيق هذه الـحالة الـمتراوحة بيـن الـمدينة والصحراء، ولكن »الـجوف« أصلح. فهو وادٍ عميق فسيح، مساحته نحو ستيـن ميلاً في عشرة أميال، وتربته خصبة ومياهه غزيرة، وفيه أشجار نخل وبساتيـن وحقول زراعية غنية بالـحبوب، وأهم بلدانه حصيـن كثير الـمنازل التي تبلغ نحو أربعمائة منزل عداً، ففي هذا الـمكان وهذا الزمان نرى الـمدينة متمركزة في الشيخ الذي يحكمها. والعشيرة التي ينتمي إليها أيوب كان لها شيخها وذلك الشيخ كان أيوب (ص29) ويؤيد ذلك ما كان له من الغنى الكثير، والاحترام الفائق الذي أُظهر نحوه حيـن قدم ليرأس الـمحكمة عند الباب حيث لزم الناس كبيرهم وصغيرهم، حقيرهم ونبيلهم، الصمت من شدة احترامهم، وما كان له من القضاء. أضف إلى ذلك عدم احتماله الـمعاندة وهو ما حمله إبّان نكبته على الغضب والنزق حتى أخذ يجدف على الله تـجديفاً لا يرى أحد أن ينسبه إلى عبراني شفيق (21،11:7) وهذا برهان آخر يؤيد ما نزعم، لأنه يعطينا مثالاً من تأثير السيادة على أخلاق الشخص مهما كان ذلك الشخص طيب القلب. إنّ هذه الظاهرة جزء من ذلك الـمحيط العربي الذي نشأ فيه الكتاب، نعني مشيخة الشخص الذي هو محوره.
»إذا كان الأسلوب في هذا السفر يخالف الأسلوب العبراني فإن فكرة الله نفسها تخالف الفكرة العبرانية مخالفة جلية. فإن إله أيوب وأصدقائه يختلف عن »صديق« الإنسان، إذ إنّ صفاته تتفق بالأكثر مع صفات الشيخ العربي الـحقيقي وهو يظل على هذه الصفات إلى أن يضيف أليهو فكراً جديداً. إنّ شيخ القبيلة العربية الـمطلق التصرف لـمستبد نزق، متحكم، قاس لا يـمكن التعويل عليه. وهكذا نـجد إله أيوب. فهو ينظر إلى العالم كما ينظر إليه الشيخ أي أنه يعدّه لعبة يتلهى بها حسب رغائبه. فنرى أنه لا يفكر مطلقاً بانفعالات أيوب الإنسانية ومصالـحه، بل يضرب صفحاً عن جميع ذلك ويُعرِّض خادمه الأميـن لعذابات هائلة، ليرضي شهوة من شهواته، أو ليربح رهاناً (6،5:2). إنه يظهر لنا متجاوزاً جميع حدود الرصانة والـحلم، حيث هو موصوف في الكتاب الذي نحن بصدده بأنه »يـمزق« أيوب في غضبه »ويحرق عليه الأُرَّم« (9:16) ويضطهده (22:19). وكما أنّ إله أيوب لا يهتم بـمصالح الإنسان، كذلك لا يهتم بالعدل. ومع ذلك فليس لأيوب رجاء بالعدل إلا بواسطة هذا الشيخ الإلهي كما أنه ليس للعربي رجاء بالعدل إلا على يد شيخه (25:19،19:16) وليس لهذه الـمعضلة حل قط. فالإنسان مسحوق سحقاً. »ليس لك حكمة أو قوة تضاهي حكمتي وقوّتي« يقول الله. »لا بد لك من الإذعان« وأيوب يذعن. وهكذا يعود الله الذي سلب أيوب كل شيء بدون عدل إلى الإسراف في التعويض عليه أضعاف غناه السابق.«